البابا خلال المقابلة العامة: فلتكن محبة الحقيقة والعطش الدائم إلى الله اللذان ميزا حياة القديس أنسلموس تشجيعاً لكل مسيحي للبحث الدؤوب عن اتحاد أوثق مع المسيح، الطريق والحق والحياة.

الخميس, 24 سبتمبر 2009

حاضرة الفاتيكان (وكالة فيدس) – "راهب في الحياة الروحية العميقة، ومربّ ممتاز للشبيبة، ولاهوتي صاحب قدرة فكرية هائلة، ورجل سلطة حكيم ومدافع ثابت عن حرية الكنيسة، يعتبر أنسلموس إحدى الشخصيات البارزة في القرون الوسطى التي تمكنت من تنسيق كل هذه المزايا بفضل خبرة صوفية عميقة لطالما أرشدت أفكاره وأعماله." في كلمته خلال المقابلة العامة يوم الاربعاء، تحدث البابا عن القديس انسلموس البندكتي.
سنة 1033، ولد القديس أنسلموس بكراً في أسرة شريفة في أوستا. كان والده رجلاً فظاً متعلقاً بملذات الحياة ومبذراً كل أملاكه في سبيلها. بالمقابل كانت والدته امرأة حسنة السلوك ومتدينة. هي التي اهتمت بالتنشئة الإنسانية والدينية الأساسية لابنها الذي عهدت به لاحقاً إلى البندكتيين في دير أوستا. فيما كان أنسلموس الطفل – بحسب كاتب سيرة حياته – يتخيل مسكن الله الصالح بين قمم الألب العالية والمغطاة بالثلج، حلم ذات ليلة بأن الله دعاه إلى هذا المسكن البهي وتحدث معه مطولاً وبمحبة مقدماً له في النهاية "كسرة خبز ناصعة البياض". أيقظ فيه هذا الحلم القناعة بأنه مدعو إلى إنجاز مهمة سامية. في الخامسة عشرة من عمره، طلب الانتساب إلى الرهبانية البندكتية لكن والده اعترض على ذلك بكل قوته ولم يستسلم أبداً حتى عندما طلب ابنه المريض حتى الموت الثوب الرهباني كتعزية له. بعد الشفاء ووفاة والدته المبكرة، عاش أنسلموس فترة من الفسق الأخلاقي. أهمل دراسته ولم يستجب لدعوة الله بسبب افتتانه بالملذات الأرضية. هجر عائلته وتاه في أنحاء فرنسا بحثاً عن تجارب جديدة. بعد ثلاثة أعوام، ولدى وصوله إلى نورماندي، قصد الدير البندكتي في باك لذيوع شهرة رئيس الدير لانفرانك دي بافيا. وكان اللقاء بينهما مناسباً وحاسماً لبقية حياته. بإشراف لانفرانك، استأنف أنسلموس دراسته بنشاط وأصبح بعد هنيهة الطالب المفضل لدى أستاذه لا بل صديقه. تأججت دعوته الرهبانية، وبعد اختبار دقيق، دخل الرهبانية وسيم كاهناً بعمر 27 سنة. هنا فتح له التقشف والدرس آفاقاً جديدة أرشدته إلى مقربة الله السامية التي كان يشعر بها عندما كان طفلاً. سنة 1063، عندما أصبح لانفرانك رئيس دير كاين، عين أنسلموس بعد ثلاث سنوات من الحياة الرهبانية رئيس دير باك وأستاذاً في مدرسة الدير فأظهر مواهب المربي الماهر. لم يكن يحبذ الوسائل المتسلطة؛ كان يشبّه الشباب بنباتات صغيرة تنمو بشكل أفضل إن لم تدفن في البيوت البلاستيكية وكان يمنحهم الحرية "الصائبة". كان متطلباً مع ذاته ومع الآخرين بشأن مراعاة القواعد الرهبانية ولكنه كان يسعى جاهداً إلى الإقناع باتباع النظام بدلاً من فرضه. عند وفاة رئيس إيرلوين، مؤسس دير باك، انتخب أنسلموس بالإجماع لخلافته وكان ذلك في فبراير سنة 1079. في تلك الأثناء، دعي العديد من الرهبان إلى كانتربيري لحمل التجدد إلى الإخوة في إنكلترا. تم الترحيب بعملهم لدرجة أن لانفرانك دي بافيا، رئيس دير كاين، أصبح رئيس أساقفة كانتربيري الجديد وطلب من أنسلموس تمضية بعض الوقت معه لتعليم الرهبان ومساعدته في الأوضاع الصعبة التي كانت تقاسيها جماعته الكنسية بعد اجتياح الغزو النورماندي. بدت إقامة أنسلموس مثمرة جداً إذ كسب تعاطف الجميع واحترامهم حتى أنه انتخب بعد وفاة لانفرانك لخلافته في السدة الأسقفية في كانتربيري. فنال الدرجة الأسقفية في ديسمبر 1093.
سرعان ما التزم أنسلموس في نضال نشيط من أجل حرية الكنيسة، داعماً بشجاعة استقلال السلطة الروحية عن السلطة الزمنية. دافع عن الكنيسة من تدخلات السلطات السياسية، وبخاصة من الملكين ويليام الأحمر وهنري الأول. كما حظي بالدعم والتشجيع من الحبر الأعظم الذي لطالما أظهر له أنسلموس اتحاده الشجاع والودي. هذه الأمانة كلفته مرارة النفي من مقره في كانتربيري سنة 1103. وسنة 1106، عندما امتنع الملك هنري الأول عن المطالبة بالتشاور في التعيينات الكنسية وجباية الضرائب ومصادرة ممتلكات الكنيسة، تمكن أنسلموس من العودة إلى إنكلترا ولقي استقبالاً فرحاً من الإكليروس والشعب. هكذا اختتمت بسرور مسيرة النضال الطويل الذي خاضه بأسلحة الثبات والزهو والصلاح. إن رئيس الأساقفة القديس الذي كان موضع إعجاب الجميع في كل مكان كان يقصده، كرس السنوات الأخيرة من حياته بخاصة للتنشئة الأخلاقية للإكليروس والبحث الفكري في مواضيع لاهوتية. توفي في 21 أبريل 1109 بصحبة كلمات الإنجيل المعلن خلال قداس اليوم: "أنتم ثبتم معي في محني، وأنا أوليكم الملكوت كما ولاني إياه أبي، فتأكلون وتشربون على مائدتي في ملكوتي" (لو 22: 28، 30). هكذا تحقق حلم الوليمة السرية الذي رآه عندما كان طفلاً في بداية مسيرته الروحية. يسوع الذي دعا القديس أنسلموس إلى الجلوس إلى مائدته، استقبله عند وفاته في ملكوت الآب السرمدي. "إلهي، أتوسل إليك، أريد أن أعرفك، أريد أن أحبك وأستفيد منك. إن لم أكن قادراً على ذلك في هذه الحياة، دعني أتقدم يومياً حتى أتوصل إلى الكمال" (Proslogion، الفصل 14). هذه الصلاة تعرّفنا إلى الروح الصوفية التي يتمتع بها هذا القديس الكبير من القرون الوسطى، مؤسس اللاهوت المدرسي الذي أعطاه التقليد المسيحي لقب "العلامة العظيم" لأنه نمى رغبة كبيرة في التعمق بالأسرار الإلهية، مدركاً مع ذلك أن طريق البحث عن الله لا تنتهي أبداً، أقله على هذه الأرض. إن وضوح منطق فكره لطالما كان يهدف إلى "السمو بالفكر نحو التأمل بالله (المرجع عينه، Proemium). يؤكد بوضوح على أن من ينوي العمل باللاهوت، لا يمكنه الاعتماد فقط على ذكائه بل يجب أن ينمي في الوقت عينه تجربة إيمان عميقة. ينمو نشاط اللاهوتي، بحسب القديس أنسلموس، في ثلاث مراحل: الإيمان، الهبة التي يمنحها الله فنتلقاها بتواضع؛ الدراية التي تقوم على تجسيد كلمة الله في وجودها اليومي؛ والمعرفة الحقيقية التي ليست ثمرة حجج مطهرة وإنما حدس تأملي. في هذا الصدد، تبقى اليوم كلماته الرائعة مفيدة أكثر من أي وقت مضى من أجل بحث لاهوتي سليم ومن أجل الراغبين في التعمق بحقيقة الإيمان: "يا رب، أنا لا أسعى إلى إدراك أعماقك لأنني لا أستطيع مقارنة فكري بها حتى من بعيد؛ لكنني أرغب إلى حد ما في فهم حقيقتك التي يؤمن بها قلبي ويحبها. لا أسعى إلى الفهم لأؤمن، ولكنني أؤمن لأفهم" .
في الختام قال البابا: فلتكن محبة الحقيقة والعطش الدائم إلى الله اللذان ميزا حياة القديس أنسلموس تشجيعاً لكل مسيحي للبحث الدؤوب عن اتحاد أوثق مع المسيح، الطريق والحق والحياة. إضافة إلى ذلك، فلتشكل الحماسة الملتهبة التي طبعت عمله الرعوي والتي كثيراً ما أدت إلى سوء الفهم ومرارة المنفى، دافعاً للرعاة والمكرسين والمؤمنين من أجل محبة كنيسة المسيح والصلاة والعمل والتألم من أجلها من دون التخلي عنها أو الغدر بها.(وكالة فيدس 24-09- 2009)


مشاركة: